الأعياد وأيام التشريق ووسطية الإسلام واعتداله

خطبة الجمعية

لفضيلة الشيخ د. فريد بن يعقوب المفتاح

 

أَمَّا بَعْدُ: فَأُوصِيكُمْ عِبَادَ اللهِ تَعَالَىْ وَنَفْسِيَ أَوَّلاً بِتَقْوَى اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىْ وَطَاعَتِهِ.

أَيُّهَا الفُضَلاءُ الكِرَامُ: الأَعْيَادُ وَأَيَّامُ التَّشْرِيْقِ، وَأَيَّامُ الفَرَحِ وَالسُّرُوْرِ؛ جُزْءٌ مِنْ نِظَامِ أُمَّةِ الإسْلامِ، وَمِنْ شَرْعِ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَىْ، وَالفَرَحُ وَالسُّرُوْرُ فِيْ هَذِهِ الأَيَّامِ؛ مِنْ سُنَنِ المُرْسَلِيْنَ، وَإِظْهَارُ البّهْجَةِ وَالفَرَحِ وَالسُّرُوْرِ فِيْ الأَعْيَادِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيْقِ؛ مِنْ شَعَائِرِ الدِّيْنِ، وَلَقَدْ أَظْهَرَ نَبِيُّكُمْ مُحَمَّدٌ صَلَّىْ اللهُ عَلَيهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الفَرَحَ وَالسُّرُوْرَ بِالأَعْيَادِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيْقِ فِيْ شَرْعِهِ وَفِعْلِهِ وَتَقْرِيْرِهِ، وَأَذِنَ لِلْمُسْلِمِيْنَ بِأَنْ يَفْرَحُوْا، وَأَقرَّ الفَرِحِيْنَ عَلَىْ فَرَحِهِم، تَقُوْلُ عَائِشَةُ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: “دَخَلَ عَلَيَّ رَسُوْلُ اللهِ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَعِنْدِي جَارِيَتَانِ تُغَنِّيَانِ بِدُفَّيْنِ، فَاضْطَجَعَ عَلَىْ الفِرَاشِ وَتَسَجَّىْ بِثَوْبِهِ وَحَوَّلَ وَجْهَهُ إِلَىْ الجِدَارِ وَهُوَ يَسْتَمِعُ، وَجَاءَ أَبُوْبَكْرٍ فَانْتَهَرَهُمَا، فَكَشَفَ النَّبِيُّ وَجْهَهُ وَقَالَ: “دَعْهُمَا يَا أَبَا بَكْرٍ، إِنَّ لِكُلِّ قَوْمٍ عِيْدًا، وَهَذَا عِيْدُنَا”. فَهَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ هُوَ إِظْهَارُ الأُنْسِ وَالبِشْرِ وَالبَهْجَةِ وَالفَرَحِ وَالسُّرُوْرِ فِيْ أَيَّامِ التَّشْرِيْقِ وَالأَعْيَادِ.

وَمِنْ هُنَا -يَا عِبَادَ اللهِ- فَإِنَّ الأَعْيَادَ وَأَيَّامَ التَّشْرِيْقِ وَمُنَاسَبَاتِ الدِّيْنِ بِعَامَّةٍ، تُمَثّلُ وَسَطِيَّةَ الدِّيْنِ وَاعْتِدَالَ مَنْهَجِ الإِسْلامِ، فِيْهَا بَهْجَةُ النَّفْسِ مَعَ صَفَاءِ العَقِيْدَةِ، إِيْمَانُ القَلْبِ مَعَ مُتْعَةِ الجَوَارِحِ. الأَعْيَادُ فِيْ حِسَابِ العُمُرِ وَجَرْيِ الأَيَّامِ وَاللَّيَالِيْ؛ أَيَّامٌ مَعْدُوْدَةٌ مَعْلُوْمَةٌ، وَمُنَاسَبَاتٌ لَهَا خُصُوْصِيَّتُهَا، لا تَقْتَصِرُ الفَرْحَةُ فِيْهَا عَلَىْ المَظَاهِرِ الخَارِجِيَّةِ، لَكِنَّهَا تَنْفُذُ إِلَىْ الأَعْمَاقِ وَتَنْطَلِقُ إِلَىْ القُلُوْبِ، فَوَدِّعْ -يَا عَبْدَ اللهِ- الهُمُوْمَ، وَدِّعْ الأَحْزَانَ، وَدِّعْ الكَآبَةَ، جَانِبْ القُنُوْطَ وَاليَأْسَ، وَلا تَحْقِدْ وَلا تَكْرَهُ، وَلا تَحْمِلْ غِلَّاً، وَلا كَرَاهِيَةً، وَلا تَحْسِدْ، وَلا تَتَعَدَّىْ عَلَىْ أَحَدٍ مِنْ بَنِيْ الإِنْسَانِ، شَارِكِ النَّاسَ فَرْحَتَهُمْ، أَقْبِلْ عَلَىْ النَّاسِ وَتَفَاعَلْ مَعَهُمْ بِانْشِرَاحِ صَدْرٍ، وَسَلامَةِ طَوِيَّةٍ، وَسُرُوْرٍ وَرَاحَةِ بَالٍ، وَارْسُمْ البَسَمَةَ وَالبَهْجَةَ، وَأَمِّلْ الخَيْرَ، وَاشْعُرْ بِالسَّعَادَةِ وَلا تُقَطِّب جَبِيْنَك وَلا تَحْزَنْ، وَكُنْ إِيْجَابِيَّاً، كُنْ مُبْتَهِجَاً، كُنْ مُتَفَائِلاً، سَعِيْدَاً مَسْرُوْرَاً.

ثُمَّ إِنَّهُ يَنْبَغِيْ عَلَيْنَا -رَحِمَكُمُ اللهُ- وَحَتَّىْ نُحَافِظَ عَلَىْ وَحْدَتِنَا وَالتِئَامِ صَفِّنَا، وَتَآلُفِنَا، وَتَوَحُّدِنَا -يَنْبَغِيْ عَلَيْنَا- أَنْ نَكُوْنَ حَذِرِيْنَ مِنْ أَنْ نَنَجَرَّ إِلَى أُتُوْنِ الخِلافَاتِ المَذْهَبِيَّةِ، وَالنَّعَرَاتِ الطَّائِفِيَّةِ، بِسَبَبِ عِبَارَةٍ قِيْلَتْ هُنَا، أَوْ كَلِمَةٍ صَدَرَتْ هُنَاكَ، غَيْرَ مَقْصُوْدَةٍ، وَلا مُتَعَمَّدَةٍ، وَأَنْتَ تَسْتَطِيْعُ أَنْ تَجِدَ لَهَا فِيْ الخَيرِ وَالمَعَاذِيْرِ مَحْمَلاً؛ بَلْ أَلْفَ مَحْمَلٍ وَمَخْرَجٍ وَعُذْرٍ وَسَبَبٍ، وَهَذَا هُوَ تَصَرُّفُ وَصَنِيْعُ أَهْلُ الإِيْمَانِ، وَأَصْحَابُ العُقُوْلِ الكَبِيْرَةِ، والنُّفُوْسِ الحَكِيْمَةِ، وَالقُلُوْبِ السَّلِيْمَةِ، يَقُوْلُ أَمِيْرُ المُؤْمِنِيْنَ عَلِيٌّ بْنُ أَبِيْ طَالِبٍ رَضِيُ اللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ: “لا تَظُنَّنَّ بِكَلِمَةٍ خَرَجَتْ مِنْ أَخِيْكَ سُوْءَاً، وَأَنْتَ تَجِدُ لَهَا فِيْ الخَيْرِ وَالتِمَاسِ العُذْرِ مَحْمَلاً”، وَقَالَ أَيْضَاً: “حُسْنُ الظَنِّ مِنْ أَحْسَنِ الشِّيَمِ وَأَفْضَلِ الأَخْلاقِ وَالقَسَمِ”.

فَحَذَارِ ثَمَّ حَذَارِ -رَحِمَكُمُ اللهُ- أَنْ تُزَجَّ الأُمَّةُ فِيْ الزِّلْزَالِ الطَّائِفِيِّ وَالبُرْكَانِ المَذْهَبِيِّ، بِإِثَارَةِ الخِلافَاتِ وَالنَّعَرَاتِ وَالعَصَبِيَّاتِ، يَجِبُ الإِصْرَارُ ثُمَّ الإِصْرَارُ عَلَىْ نَهْجِ الوَحْدَةِ وَالاعْتِصَامِ، وَالعَيْشِ الجَمَاعِيِّ، وَالتَّعَايُشِ السِّلْمِيِّ الحَضَارِيِّ، وَالحِفَاظِ عَلَىْ الهُوِيَّةِ الوَطَنِيَّةِ، وَالانْتِمَاءِ الوَطَنِيِّ، وَالمُوَاطَنَةِ الصَّالِحَةِ، وَتَرْسِيْخ أَمْنِ وَاسْتِقْرَارِ الأَوْطَانِ وَتَمَاسُكِهَا واتِّحَادِهَا، وَالحِفَاظِ عَلَىْ بَيْضَةِ المُسْلِمِيْنَ، وَتَرَابُطِ المُسْلِمِيْنَ، وَعَدَمِ التَّمْكِيْنِ لِلْعَدُوِّ المُتْرَبِّصِ أَنْ يَتَدَخَّلَ فِيْ شُئُوْنِ بُلْدَانِ المُسْلِمِيْنَ.

وَمِنْ هُنَا، فَإِنَّه يَجِبُ أَنْ تُفجَّرَ أَنْهَارُ السَّلْسَبِيْلِ الدَّافِقِ مِنْ ثَقَافَةِ التَّسَامُحِ وَالتَّآلُفِ، يَجِبُ أَنْ تُفجَّرَ أَنْهَارُ السَّلْسَبِيْلِ الدَّافِقِ مِنْ ثَقَافَةِ السَّلامِ، يَجِبُ أَنْ تُفجَّرَ أَنْهَارُ السَّلْسَبِيْلِ الدَّافِقِ مِنْ ثَقَافَةِ الحُبِّ وَالوُدِّ، وَالقَبُوْلِ المُتَبَادَلِ، تَفَاؤُلاً، وَلُطْفَاً، وَمَحَبَّةً، وَصَفَاءً، وَأَمْناً وَاسْتِقْرَارَاً، وَتَمَاسُكَاً وَوَحْدَةً.

اللَّهُمَّ اجْعَلْ مُجْتَمَعَ مَمْلَكَةِ البَحْرَيْنِ، مُجْتَمَعَاً مُتَرَابِطًا مُتَوَادَّاً مُتَرَاحِمًا مُتَحَابَّاً، اللَّهُمَّ وَأَدِمْ عَلَى مَمْلَكَةِ البَحْرَيْنِ فَضْلَكَ وَبَرَكَاتِكَ وَنِعَمَكَ وَإِحْسَانِكَ، وَزِدْهَا مِنْ عَطَائِكَ وكَرَمِكَ وَسَخَائِكَ وَتَوْفِيْقِكَ، يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ، اللَّهُمَّ وَاْحْفَظْهَا مِنَ العَوَادِيْ وَالغَوَائِلِ، وَاْحْفَظْهَا مِنْ كُلِّ سُوْءٍ وَمَكْرُوْهٍ، يَا ذَا الجَلالِ وَالإِكْرَامِ.

اِسْتَغْفِرُوْا رَبَّكُمْ -عِبَادَ اللهِ- وَتُوْبُوْا إِلَيْهِ، إِنَّهُ كَانَ غَفَّارَا.

الحَمْدُ لله، وَالصَّلاةُ وَالسَّلامُ عَلَىْ رَسُوْلِ اللهِ، وَعَلَىْ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنْ اِتَّبَعَ هُدَاهُ.

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُوْنَ الكِرَامُ: تَقَبَّلَ اللهُ طَاعَاتِكم وَصَالِحَ أَعْمَالِكُمْ، وَقَبِلَ لِحُجَّاجِ بَيْتِ اللهِ حَجَّهم، وَتَجَاوَزَ عَنْ خَطَاياهُم، وَأَرجَعَهُمْ سَالِمِيْنَ غَانِمِيْنَ، مَغْفُوْرَاً لَهُمْ مُعَافِيْنَ، وَقَبِلَ مِنْكُمْ ضَحَايَاكم، وَقَرَابِيْنَكُمْ وَصَدقَاتِكُمْ وَصِيَامَكم وَدُعَاءَكم، وَضَاعَفَ حَسَناتِكُمْ، وَجَعَلَ عِيْدَكُمْ مُبَارَكاً، وَأَيَّامَكُمْ كُلَّهَا، أَيَّامَ سَعَادَةٍ وَفَرَحٍ وَسُرُوْرٍ وَبَهْجَةٍ وَهَنَاءٍ، وَفَضْلٍ وَإِحْسَانٍ، وَعَمَلٍ وَمَحَبَّةٍ وَوُدٍّ وَصَفَاءٍ وَوِئَام.

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ وَنَتَوَّجَّهُ إِلَيْكَ بِأَنْ تَحْفَظَ القُرْآنَ العَظِيْمَ -كِتَابَكَ الكَرِيْمَ- مِنْ عَبَثِ العَابِثِيْنَ، اللَّهُمَّ احْفَظْ القُرْآنَ العَظِيْمَ -كِتَابَكَ الكَرِيْمَ- مِنْ اعْتِدَاءِ المُعْتَدِيْنَ، اللَّهُمَّ احْفَظْ القُرْآنَ العَظِيْمَ -كِتَابَكَ الكَرِيْمَ- مِنْ انْتِهَاكِ المُنْتَهِكِيْنَ، وَمنْ دَنَسِ النَّجِسِيْنَ المَارِقِيْنَ. اللَّهُمَّ وَأَبْطِلْ كَيْدَ أَعْدَاءِ الإِسْلامِ وَالمُسْلِمِيْنَ، اللَّهُمَّ وَأَبْطِلْ مَكْرَهُمْ، اللَّهُمَّ وَأَبْطِلْ خُطَطَهُمْ الَّتِيْ يُرِيْدُوْنَ بِهَا النَّيْلَ مِنْ كِتَابِكَ العَظِيْمِ، اللَّهُمَّ وَانْصُرْ كِتَابَكَ وَسُنَّةَ نَبِيِّكَ مُحَمَّدٍ صَلَّىْ اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ. اللَّهُمَّ احْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَائِمِيْنَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ قَاعِدِيْنَ، وَاحْفَظْنَا بِالإِسْلامِ رَاقِدِيْنَ، وَلا تُشْمِتْ بِنَا الأَعْدَاءَ وَلا الحَاسِدِيْنَ، بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِيْنَ، يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِيْ وَطَنِنَا وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلاةَ أُمُوْرِنَا، اللَّهُمَّ أيِّدْ بِالحَقِّ إِمَامَنا وَوَليَّ أَمْرِنَا مَلِكَنَا حَمَدَ بِنْ عِيْسَىْ، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ بِتَوْفِيْقِكَ وَأَيِّدْهُ بِتَأَيِيْدِكَ، وَانْصُرْهُ بِنَصْرِكَ، وَأَعْلِ بِهِ كَلِمَتَكَ، وَانْصُرْ بِهِ دِيْنَكَ، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُ وَوَلِيَ عَهْدِهِ رَئِيْسَ وُزَرَائِهِ، اللَّهُمَّ وَفِّقْهُمْ -وُلاةِ أَمْرِنَا- إِلَىْ مَا فِيْهِ خَيْرُ هَذَا الوَطَنِ، وَعِزُّ الإِسْلامِ، وَصَلاحُ المُسْلِمِيْنَ يَا رَبَّ العَالَمِيْنَ.